فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{سَيَقُولُونَ ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بالغيب وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل ربى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ}.
لما شاعت قصة أهل الكهف حين نزل بها القرآن صارت حديث النوادي، فكانت مثار تخرصات في معرفة عددهم، وحصر مدة مكثهم في كهفهم، وربما أملى عليهم المتنصرة من العرب في ذلك قصصًا، وقد نبههم القرآن إلى ذلك وأبهم على عموم الناس الإعلام بذلك لحكمة، وهي أن تتعود الأمة بترك الاشتغال فيما ليست منه فائدة للدين أو للناس، ودل عَلَم الاستقبال على أن الناس لا يزالون يخوضون في ذلك.
وضمير {يقولون} عائد إلى غير مذكور لأنه معلوم من المقام، أي يقول الناس أو المسلمون، إذ ليس في هذا القول حرج ولكنهم نُبّهوا إلى أن جميعه لا حجة لهم فيه.
ومعنى سين الاستقبال سارٍ إلى الفعلين المعطوفين على الفعل المقترن بالسين، وليس في الانتهاء إلى عدد الثمانية إيماء إلى أنه العدة في نفس الأمر.
وقد أعلم الله أن قليلًا من الخلق يعلمون عدتهم وهم من أطلعهم الله على ذلك.
وفي مقدمتهم محمد صلى الله عليه وسلم لأن قصتهم جاءت على لسانه فلا شك أن الله أطلعه على عدتهم.
وروي أن ابن عباس قال: أنا من القليل.
وكأن أقوال الناس تمالأت على أن عدتهم فردية تيمنًا بعدد المفرد، وإلا فلا دليل على ذلك دون غيره، وقد سمى الله قولهم ذلك رجمًا بالغيب.
والرجم حقيقته: الرمي بحجر ونحوه.
واستعير هنا لرمي الكلام من غير روية ولا تثبت، قال زهير:
وما هو عنها بالحديث المرجم

والباء في {بالغيب} للتعدية، كأنهم لما تكلموا عن أمر غائب كانوا يرجمون به.
وكل من جملة {رابعهم كلبهم} وجملة {سادسهم كلبهم} في موضع الصفة لاسم العدد الذي قبلها، أو موضع الخبر الثاني عن المبتدأ المحذوف.
وجملة {وثامنهم كلبهم} الواو فيها واو الحال، وهي في موضع الحال من المبتدأ المحذوف، أو من اسم العدد الذي هو خبر المبتدأ، وهو وإن كان نكرة فإن وقوعه خبرًا عن معرفةٍ أكسبه تعريفًا.
على أن وقوع الحال جملة مقترنة بالواو قد عد من مسوغات مجيء الحال من النكرة.
ولا وجه لجعل الواو فيه داخلة على جملة هي صفة للنكرة لقصد تأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما ذهب إليه في الكشاف لأنه غير معروف في فصيح الكلام: وقد رده السكاكي في المفتاح وغير واحد.
ومن غرائب فتن الابتكار في معاني القرآن قول من زعم: إن هذه الواو واو الثمانية، وهو منسوب في كتب العربية إلى بعض ضعَفة النحاة ولم يُعين مبتكره.
وقد عد ابن هشام في مغني اللبيب من القائلين بذلك الحريري وبعض ضعفة النحاة كابن خالويه والثعلبي من المفسرين.
قلت: أقدمُ هؤلاء هو ابن خالويه النحوي المتوفى سنة 370 فهو المقصود ببعض ضعفة النحاة.
وأحسب وصفه بهذا الوصف أخذه ابن هشام من كلام ابن المنير في الانتصاف على الكشاف من سورة التحريم إذ روى عن ابن الحاجب: أن القاضي الفاضل كان يعتقد أن الواو في قوله تعالى: {ثيبات وأبكارا} في سورة التحريم (5) هي الواو التي سماها بعض ضعفة النحاة واو الثمانية.
وكان القاضي يتبجح باستخراجها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة، أحدها: التي في الصفة الثامنة في قوله تعالى: {والناهون عن المنكر} في سورة براءة (112).
والثانية: في قوله: {وثامنهم كلبهم}.
والثالثة: في قوله: {وفُتِّحَتْ أبوابها} في الزمر (73).
قال ابن الحاجب ولم يزل الفاضل يستحسن ذلك من نفسه إلى أن ذكَره يومًا بحَضرة أبي الجُود النحوي المُقْري؛ فبين له أنه واهم في عدها من ذلك القبيل وأحال البيان على المعنى الذي ذكره الزمخشري من دعاء الضرورة إلى الإتيان بالواو هنا لامتناع اجتماع الصفتين في موصوف واحد إلى آخره.
وقال في المغني: سبق الثعلبي الفاضلَ إلى عدها من المواضع في تفسيره.
وأقول: لعل الفاضل لم يطلع عليه.
وزاد الثعلبي قوله تعالى: {سبع ليال وثمانية أيام حسوما} في سورة الحاقة (7) حيث قرن اسم عدد ثمانية بحرف الواو.
ومن غريب الاتفاق أن كان لحقيقة الثمانية اعتلاقٌ بالمواضع الخمسة المذكورة من القرآن إما بلفظه كما هنا وآية الحاقة، وإما بالانتهاء إليه كما في آية براءة وآية التحريم، وإما بكون مسماه معدودًا بعدد الثمانية كما في آية الزمر.
ولقد يعدُّ الانتباه إلى ذلك من اللطائف، ولا يبلغ أن يكون من المعارف.
وإذا كانت كذلك ولم يكن لها ضابط مضبوط فليس من البعيد عد القاضي الفاضللِ منها آية سورة التحريم لأنها صادفت الثامنة في الذكر وإن لم تكن ثامنة في صفات الموصُوفين، وكذلك لعد الثعلبي آية سورة الحاقة؛ ومثل هذه اللطائف كالزهرةُ تُشم ولا تحك.
وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {والناهون عن المنكر} في سورة براءة (112).
وجملة {قل ربي أعلم بعدتهم} مستأنفة استئنافًا بيانيًا لما تثيره جملة {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم} إلى آخرها من ترقب تعيين ما يعتمد عليه من أمر عدتهم.
فأجيب بأن يحال العلم بذلك على علام الغيوب.
وإسناد اسم التفضيل إلى الله تعالى يفيد أن علم الله بعدتهم هو العلم الكامل وأن علم غيره مجرد ظن وحدس قد يصادف الواقع وقد لا يصادفه.
وجملة {ما يعلمهم إلا قليل} كذلك مستأنفة استئنافًا بيانيًا لأن الإخبار عن الله بأنه الأعلم يثير في نفوس السامعين أن يسألوا: هل يكون بعض الناس عالمًا بعدتهم علمًا غير كامل، فأجيب بأن قليلًا من الناس يعلمون ذلك ولا محالة هم من أطلعهم الله على ذلك بوحي وعلى كلّ حال فهم لا يوصفون بالأعلمية لأن علمهم مكتسب من جهة الله الأعلم بذلك.
تفريع على الاختلاف في عدد أهل الكهف، أي إذا أراد بعض المشركين المماراة في عدة أهل الكهف لأخبار تلقوها من أهل الكتاب أو لأجل طلب تحقيق عدتهم فلا تمارهم إذ هو اشتغال بما ليس فيه جدوى.
وهذا التفريع وما عطف عليه مُعترض في أثناء القصة.
والتماري: تفاعل مشتق من المرية، وهي الشك.
واشتقاق المفاعلة يدل على أنها إيقاع من الجانبين في الشك، فيؤول إلى معنى المجادلة في المعتقد لإبطاله وهو يفضي إلى الشك فيه، فأطلق المراء على المجادلة بطريق المجاز، ثم شاع فصار حقيقة لما ساوى الحقيقة.
والمراد بالمراء فيهم: المراء في عدتهم كما هو مقتضى التفريع.
والمراء الظاهر: هو الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا يطول الخوض فيه.
وذلك مثل قوله: {قل ربي أعلم بعدتهم} وقوله: {ما يعلمهم إلا قليل}، فإن هذا مما لا سبيل إلى إنكاره وإبايتهِ لوضوح حجّته وما وراء ذلك محتاج إلى الحجة فلا ينبغي الاشتغال به لقلة جدواه.
والاستفتاء: طلب الفتوى، وهي الخبر عن أمر علمي مما لا يعلمه كل أحد.
ومعنى {فيهم} أي في أمرهم، أي أمر أهل الكهف.
والمراد من النهي عن استفتائهم الكناية عن جهلهم بأمر أهل الكهف، فضمير {منهم} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {سيقولون ثلاثة}، وهم أهل مكة الذين سألوا عن أمر أهل الكهف.
أو يكون كناية رمزية عن حصول علم النبي صلى الله عليه وسلم بحقيقة أمرهم بحيث هو غني عن استفتاء أحد، وأنه لا يُعلم المشركين بما علمه الله من شأن أهل الكهف، وتكون من تعليلية، والضمير المجرور بها عائدًا إلى السائلين المتعنتين، أي لا تسأل علم ذلك من أجل حرص السائلين على أن تعلمهم بيقين أمر أهل الكهف فإنك علِمته ولم تؤمر بتعليمهم إياه، ولو لم يحمل النهي على هذا المعنى لم يتضح له وجه.
وفي التقييد ب {منهم} مُحترز ولا يستقيم جعل ضمير {منهم} عائدًا إلى أهل الكتاب، لأن هذه الآيات مكية باتفاق الرواة والمفسرين.
{وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذلك غَدًا} {إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله}.
عطف على الاعتراض.
ومناسبة موقعه هنا ما رواه ابن إسحاق والطبري في أول هذه السورة والواحدي في سورة مريم: أن المشركين لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الكهف وذي القرنين وعدهم بالجواب عن سؤالهم من الغد ولم يَقُل إن شَاءَ الله فلم يأته جبريل عليه السلام بالجواب إلا بعد خمسة عشرَ يومًا.
وقيل: بعد ثلاثة أيام كما تقدم، أي فكان تأخير الوحي إليه بالجواب عتابًا رمزيًا من الله لرسوله عليه الصلاة والسلام كما عاتب سليمان عليه السلام فيما رواه البخاري: «أن سليمان قال: لأطوفَنّ الليلة على مائة امرأة تَلِد كل واحدة ولدًا يقاتل في سبيل الله فلم تحمل منهن إلا واحدة ولدت شِقّ غلام».
ثم كان هذا عتابًا صريحًا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أهل الكهف وعد بالإجابة ونسي أن يقول: إن شاء الله كما نسي سليمان، فأعلم الله رسوله بقصة أهل الكهف، ثم نهاه عن أن يَعِد بفعل شيء دون التقييد بمشيئة الله.
وقوله: {إلا أن يشاء الله} استثناء حقيقي من الكلام الذي قبله.
وفي كيفية نظمه اختلاف للمفسرين، فمقتضى كلام الزمخشري أنه من بقية جملة النهي، أي هو استثناء من حكم النهي، أي لا تقولن: إني فاعل إلخ... إلا أن يشاء الله أن تقوله.
ومشيئة الله تُعلم من إذنه بذلك، فصار المعنى: إلا أن يأذن الله لك بأن تقوله.
وعليه فالمصدر المسبك من {أن يشاء الله} مستثنى من عموم المنهيات وهو من كلام الله تعالى، ومفعول {يشاء الله} محذوف دل عليْه ما قبله كما هو شأن فِعل المشيئة والتقدير: إلا قولًا شاءه الله فأنت غير منهي عن أن تقوله.
ومقتضى كلام الكسائي والأخفش والفراء أنه مستثنى من جملة {إني فاعل ذلك غدًا}، فيكون مستثنى من كلام النبي صلى الله عليه وسلم المنهي عنه، أيْ إلا قولًا مقترنًا بإن شاء الله فيكون المصدر المنسبك من أن والفعل في محل نصب على نزع الخافض وهو باء الملابسة.
والتقدير: إلا بإن يشاء الله أي بما يدل على ذكر مشيئة الله، لأن ملابسة القول لحقيقة المشيئة محال، فعلم أن المراد تلبسه بذكر المشيئة بلفظ إن شاء الله ونحوهِ، فالمراد بالمشيئة إذن الله له.
وقد جمعت هذه الآية كرامة للنبيء صلى الله عليه وسلم من ثلاث جهات:
الأولى: أنه أجاب سؤله، فبين لهم ما سألوه إياه على خلاف عادة الله مع المكابرين.
الثانية: أنه علمه علمًا عظيمًا من أدب النبوءة.
الثالثة: أنه ما علمه ذلك إلا بعد أن أجاب سؤله استئناسًا لنفسه أن لا يبادره بالنهي عن ذلك قبل أن يجيبه، كيلا يتوهم أن النهي يقتضي الإعراض عن إجابة سؤاله، وكذلك شأن تأديب الحبيب المكرّم.
ومثاله ما في الصحيح: أن حكيم بن حزام قال: «سألت رسول الله فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيم إن هذا المال خَضِرَةٌ حُلوةٌ فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأُ أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا».
فعلم حكيم أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك ليس القصد منه منعه من سُؤْله وإنما قصد منه تخليقه بخلق جميل، فلذلك أقسم حكيم: أن لا يأخذ عن أحد غير رسول الله شيئًا، ولم يقل: لا أسألك بعد هذه المرة شيئًا.
فنظم الآية أن اللام في قوله: {لشيء} ليست اللام التي يتعدى بها فعل القول إلى المخاطب بل هي لام العلة، أي لا تقولن: إني فاعل كذا لأجل شيء تَعِدُ به، فاللام بمنزلة في.
وشيء اسم متوغل في التنكير يفسره المقام، أي لشيء تريد أن تفعله.
والإشارة بقوله: {ذلك} عائدة إلى شيء.
أي أني فاعل الإخبار بأمر يسألونه.
و{غدًا} مستعمل في المستقبل مجازًا.
وليست كلمة غدًا مرادًا بها اليوم الذي يلي يَومه، ولكنه مستعمل في معنى الزمان المستقبل، كما يستعمل اليومُ بمعنى زمان الحال، والأمسُ بمعنى زمن الماضي.
وقد جمعها قول زهير:
وأعلمُ عِلم اليوم والأمس قبله ** ولكنني عن علم ما في غدٍ عَمِ

وظاهر الآية اقتصار إعمالها على الإخبار بالعزم على فعل في المستقبل دون ما كان من الكلام إنشاءً مثل الأيمان، فلذلك اختلف فقهاء الأمصار في شمول هذه الآية لإنشاء الأيمان ونحوها، فقال جمهورهم: يكون ذكر {إلا أن يشاء الله} حَلًا لعقد اليمين يُسقط وجوب الكفارة.